أهم الاخبارمقالات

بعد اختراع النقود، لا داعي للشكر؟

مقالات

 

بقلم د. محمد جميل الشبيشيري 

هل حقا هذه المقولة صحيحة ، بعد اختراع النقود، قيل إن لا حاجة بعد اليوم للشكر. فكثيرًا ما يسدي لنا الآخرون خدمة، أو يقدمون نصيحة نافعة في صميم أعمالنا، أو يعينوننا في حمل ثقيل أو تركيب قطعة أثاث عجزنا عن تركيبه، أو يساعدوننا في تقييم عقار وتقدير سعره في ظل الأسعار المنافسة، أو يقدمون مشورة هندسية تسهم في اتخاذ قرار مصيري، أو كتابة نص ومشاركة أفكار لبحث جديد. ومع ذلك، قد لا ينتظرون مقابلاً، فنكتفي منهم بكلمة شكر، ونتركهم يمضون في حال سبيلهم.

لكن من بين هؤلاء من يفكر في داخله أنه كان يستحق أجرًا، فيُصاب بخيبة أمل تدفعه للتردد في تكرار العطاء. ومنهم من يخجل من طلب المقابل أو يتعفف عنه، فيبدو غنيًا رغم قلة يده، فلا نميّزه، ولا نعرف حاجته. هكذا، تُهمل مشاعر الامتنان، ويُفرّغ الشكر من مضمونه الحقيقي.

لقد انشغلت البشرية طويلًا بفكرة الثمنية والتبادل. وتحولت من المقايضة بألوانها المتعددة إلى النقود الذهبية والفضية ثم المسكوكات النحاسية، فالنقود الورقية، وصولًا إلى العملات الرقمية الحديثة. ومثّل اختراع النقود نقلة نوعية في حياة البشر، إذ سهّل التبادل وحدد القيم وساهم في تنظيم الحياة الاقتصادية.

وإذا كانت النقود وسيلة للتبادل ومعيارًا للقيمة، فإن تقدير الجهد البشري لا يزال أحد أعقد الإشكالات في النظرية الاقتصادية. فالرأسمالية الحديثة ترى أن العمل يُقابل بأجر أو ربح إذا امتزج برأس المال في منظومة الإنتاج، ويحصل الرأسمالي على عائد التنظيم. أما النظريات التي بالغت في تعظيم قيمة العمل، فاعتبرته مصدر كل ثروة وأساس كل مورد، دون أن تقدم دائمًا حلولًا عملية لضمان عدالة التوزيع أو حفظ كرامة العامل.

وقد جاء الإسلام ليعلي من شأن العمل، ويأمر أرباب الأعمال أن يؤتوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه. فليس من العدل أن يُستهان بالجهد البشري أو يُترك بلا تقدير، وليس من الوفاء أن ننسى الفضل بين الناس. وقد أقر الإسلام عقودًا قائمة على تبادل المنافع كالجعالة، والإجارة، والاستصناع، واعتبرها مثلها مثل عقود البيع والمضاربة والمشاركة في الإلزام والانضباط الأخلاقي.

ورغم أهمية كلمة الشكر، فإنها لا تكون محسوسة ولا مؤثرة إلا إذا اقترنت بالعطاء، ولو رمزيًا. فالأمر في واقعنا أصبح ماديًا بحتًا، وغالبًا ما يكون العاملون في الطرف الأضعف من المعادلة، لا تكفي أجورهم لسد الكفاف، ولا تسعفهم ظروفهم لتقديم المزيد. وهنا يصبح الإنفاق الخيري والعطاء المجتمعي وسيلة لسد هذه الفجوة الآخذة في الاتساع.

وهنا أستعيد ما كانت تردده أمي، نقلًا عن جدها، حين تقول: “ربنا يجعل ذكاتنا في بيعنا وشرانا” — لم تكن تعني بذلك زكاة المال فحسب، بل كانت تقصد كل وجه من أوجه البر الكامن في تفاصيل الحياة اليومية، في سلوك التاجر، وضمير المهني، وإنصاف صاحب العمل، وكرم القريب والغريب. لقد فهمت أمي أن البركة ليست في الكم، بل في النية، وأن العطاء الخفي قد يردّه الله للإنسان أضعافًا من حيث لا يحتسب.

في زمنٍ صار فيه منطق السوق يحكم كل شيء، تراجع دور الرحمة والعطاء غير المشروط، حتى في التعليم والصحة والعمل الخيري، وأصبحت القيم تُوزن بما تحققه من عائد لا بما تحمله من إنسانية. لكن الرحمة لا تُقاس بالأرباح، بل بما تعيده للروح من ضوء، والعطاء الخفي هو ما يبقي للمجتمع تماسكه، وللنفس طهارتها. فليس كل جميل يُسوّق، وليس كل كريم ينتظر المقابل. وصدق الله: “إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.”

ولعل أبلغ الأمثلة على هذا العطاء الصامت ما نراه في من يزرع شجرة على قارعة الطريق، كما فعل أجدادنا الذين حرصوا على غرس النخيل والأشجار، ولم ينتظروا ثمرتها، بل تركوها لمن يأتي بعدهم. هؤلاء هم من يمنحون الحياة طعمها ويدفعون المجتمع للاستمرار، حتى وإن لم تلمع أسماؤهم أو يُكافَؤوا علنًا.

فهل يكفي الشكر وحده لمن ساعدك دون مقابل؟ أم أن العطاء الحقيقي، هو أن نرد المعروف بمعروف؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى